ليس من باب المبالغة أن نقول بأن ٱمتحان الباكالوريا أصبح اقرب ما يكون إلى حرب نووية : تكتلات بين التلاميذ، خطط ٱستراتيجية، تموقعات على ساحة المعركة، تدريبات مكثفة…إلخ. لذلك تختلط مشاعر الخوف بالثقة في النفس، ويصبح التلميذ محاربا ينتظر دوره لتحديد مصيره

فهل من الصواب أن يحاط موضوع الإمتحان بذالك القدر من اللغط والأهمية؟ لأنه في آخر المطاف ليس إلا مرحلة عابرة في حياة الإنسان، بل هناك من يرى في الباكالوريا مجرد إجراء إداري! هذه الأجواء من الإحتقان تدفع بالتلميذ إلى مضاعفة الضغط النفسي وقضاء أغلب وقته في التساؤل حول فرص النجاح أو الفشل، وأفكار الفشل السلبية تتميز بقدرتها على التكاثر كڤيروس قاتل في جسم مريض! وبطبيعة الحال تبدأ أعراض اليأس تظهر على التلميذ المغلوب على أمره : التخلي عن الأهداف المسطرة منذ البداية، التفكير في التوقف عن التحضير للإمتحان والإنتقاص من قيمة مجهوداته كشخص.

المجلات،الجرائد، القنوات التلفزية والإذاعات…كلها تلعب دورا في تضخيم هالة الذعر المحيطة بٱمتحان الباكالوريا. فإن قمنا بإضافة جرعة من الإشاعة الكاذبة، التي تعتبر عملة رائجة في تلك الأوقات، سنجد التلميذ في وضع لا يحسد عليه، حيث يجد نفسه أمام مهمتين : التحضير الفكري للإمتحان ومحاربة أفكار اليأس.

التسريبات والغش

منذ سنتين تقريبا، لوحظ أن ظاهرة الغش في كل من الإمتحان الوطني والجهوي أخذت أبعادا جديدة تداخل فيها الأسلوب التقليدي والمتطور! يمكن أن نجد كل التفسيرات المنطقية والغير منطقية لهذه الظاهرة، ولكن في نهاية المطاف من المتضرر؟

أولا، التلميذ هو من أكبر المتضررين، بحيث أن عملية الغش في الإمتحان تمنحه دفعة صغيرة نحو الأمام ويحصل على باك بميزة “حسن” على الأكثر. ولكن نهاية القصة تنحصر في السنة الأولى في الجامعة : يجد التلميذ نفسه أمام كم هائل من الدروس ومهنة يجب بناؤها من الأساس، ولكن إن كان الأساس (شهادة الباك) مغشوشا فمصير البناء (الشهادة  العليا) هو بطبيعة الحال الإنهيار..

ثانيا، الوزارة سواء تعلق الأمر بالتربية الوطنية أو التعليم العالي. حيث تجد نفسها أمام ضياع مجهودات تنظيم الإمتحانات وٱستثمار أموال المغاربة في ٱستحقاقات تشوبها كل تلك الخروقات مرئية كانت أو خفية

ثالثا، عندما ننظر لهذه الآفة من زاوية أوسع سنفهم أن الوطن هو من يدفع الثمن غاليا : كيف لأحسن المعاهد العالمية وخصوصا الأوروبية أن تستقبل حاصلين على باكالوريا مشكوك في مصداقيتها؟ وهذا سيقود حتما إلى حرمان المغرب من أطر مغربية (سياسيون، أطباء، مهندسون، طيارون، باحثون)  تلقت دراستها بالخارج. كما أن المستثمرين  الأجانب لايمكن أن يغامروا بالإستثمار في بلد يؤمن فيه الشباب بالغش عوض المثابرة، وليس هذا إلا جزء قليلا من ويلات جنيناها من الغش

من السبب؟

سيكون من السذاجة أن نتهم أحدهم بالوقوف وراء كل ما يحدث،  لأنه بكل بساطة لسنا على ٱطلاع حول كيف يتم أصلا تصوير أوراق الإمتحان (موضوعة فوق الطاولة!) من طرف التلاميذ وإرسالها بالهاتف في ظرف5 دقائق، ثم تلقي الإجابات في أجهزة خاصة ومتطورة. كل هذا دون علم المسؤولين عن الحراسة؟ نفضل عدم التعليق..لأننا سنصل إلى ممر مسدود سنضطر فيه لتسليم حقائب المسؤولية لأصحابها

التفسير المتداول هو أن التلاميذ مستعدون لفعل أي شيء من أجل النجاح، أغلبهم  يستثمرون في العمل الجاد والشاق، والباقي يفضلون الطريق المختصر في نظرهم، وهو الغش، إذن لماذا هذه الجدية المبالغ فيها حول شهادة الباكالوريا؟

يجب أن نشير إلى أن شهادة الباكالوريا تعتبر ليس فقط درجة تعليمية ، بل تتعداها إلى كونها شهادة “رقي” ٱجتماعي، فيصبح التلميذ المترشح تحت مجهر الأسرة، الأصدقاء، الحي وكل من له معرفة بالشخص! إذن “الفشل” في الحصول على هذه الشهادة ليس أمرا واردا أو مقبولا. بل هناك من ينظم حفلات باذخة ٱحتفالا بحصول أولادهم على الشهادة الموعودة، مما يزكي ويضخم من الأهمية التي يحيطها التلميذ بمسألة الباكالوريا، فيصبح مجبرا على إرضاء المجتمع عوض بناء مستقبله

غياب الثقة بين التلاميذ والوزارة، وعدم تكافؤ الفرص في العديد من المستويات يؤديان بالتلميذ إلى ٱستعمال طرق غير قانونية للحصول على الباكالوريا بأي ثمن. تصلنا بصفة دائمة تعليقات ورسائل من قبيل “يعاقبون تلميذا يغش في ٱمتحان واحد، ويغضون الطرف عن الذين يعيثون في الأرض فسادا” أو “لم نولد غشاشين، ولكن آباؤنا لا يملكون الإمكانيات المادية من أجل إلحاقنا بالمدارس الخاصة التي تعتبر وسيط النجاح، عن طريق السخاء في توزيع نقط المراقبة المستمرة على زبنائهم (تلاميذهم) وعن طريق الجدية في التعامل مع مستقبل تلاميذهم. مجبرين لا مخيرين، آخر أمل لدينا هو الغش في الإمتحان..” . نفهم إذن أن المشكل أعمق مما هو عليه، ويحيلنا على ضرورة التفكير في حلول جذرية تتعدى العقاب والزجر، وترتقي إلى مستوى النقاش، التفاهم، الجدية والشفافية في التعامل مع مشاكل المدرسة والجامعة المغربية، لا خيار لنا الآن إلا أن نعترف بأن مشكل الغش يتعدى الأيام الثلاثة للإمتحان،  وهو أعمق من أن نعالجه بمعاقبة مجموعة من التلاميذ جريمتهم الوحيدة أنهم أرادوا مستقبلا أفضل

حان الوقت لإرجاع ثقة التلاميذ في مؤسسات الدولة بشتى أنواعها، والتوجه الفعلي نحو نظام تعليمي ينبني فعليا على  تكافؤ الفرص وليس شكليا فقط،  ومكافئة المجهود الفردي من أجل تعميمه كثقافة وكنمط عيش عند الشباب