أول ما وطئت قدماي مدينة المحمدية والتي أزورها ولأول مرة بهدف التسجيل في الأقسام التحضيرية وكل من حولي يدل على أنني أقوم بالاختيار الصحيح. فلم تكن تلك الخيوط الشمسية الذهبية الصباحية والمساحات الخضراء الواسعة بالقرب من الثانوية التقنية -مركز الأقسام التحضيرية- الجو العليل وتلك التوصيلة التي سرت حصريا على ما يرام، إلا فاتحة خير لا يمكن ترجمتها إلا إلى “فال زوين”. بعد عبوري عدة مساحات خضراء، إذا بي أجد مجموعة من الطلاب يشكلون دوائر عشوائية هنا وهناك أمام الباب الرئيسي سرعان ما لمحت بعض الوجوه التي أعرفها فهممت إليهم متشوقا لرؤيتهم بعد ما مرت أكثر من شهور على آخر لقاء بيننا والتي من بينها وجه (أمين)، الذي يعتبر من أكثر الأشخاص الذين “عمرت” معهم.

لم أكن أعرفه جيدا في الجدع المشترك بالرغم من أننا كنا نعيش بنفس الداخلية، لكنني عرفته أكثر عندما درس معي في نفس القسم السنة الأولى باكالوريا وبدأت صداقتي به من منطلق أننا نشترك عدة خصال، هو أيضا يعتبر واحدا من الأسباب التي جعلتني أتخذ قرار الولوج لهذا النوع من الدراسات، فلم يكن الاختيار سهلا ولم تكن الأقسام التحضيرية في مخططاتي المستقبلية آنذاك. التوجيه يعتبر من أهم المراحل في حياة أي طالب لأنه يتطلب منه القيام بخيار مصيري يؤثر بشكل واضح على مستقبله بالكامل لذلك تريثت كثيرا قبل أن أضع شهادة الباكالوريا بين يدي تلك الأقسام التي غيرت كل حياتي وشخصيتي. في بادئ الأمر، كنت أستبعد الذهاب إليها لسببين شخصيين: الأول: كوني من رواد فلسفلة “لبس قدك يواتيك”، فجميع من كنت أسألهم عن هذا الاختيار كانوا يحذرونني من صعوبة الدراسة هناك ليس فقط من ناحية المضمون بل حتى كمية الدروس المكثفة التي تتقل كاهل الطالب وقد تؤدي به إلى الهوان إذا كان تلميذا “ضعيفا” وثانيا: لأنني سبق وزرت المركز ورأيت تلك الجدران البالية والأقسام التي يبدو أنها لم تتجدد منذ عقود وسمعت عن الكهرباء والماء دائما الانقطاع، عن الغرف التي غالبا ما تنقصها قطعة معينة سواء باب، رف، نافذة… وعن الحياة الدراسية التي يملئها الذل و المهانة. لذلك بحثت كثيرا للوصول إلى مدارس المهندسين بدون الالتحاق بالأقسام التحضيرية. فمعروف أن نظام التوجيه المغربي ينقسم الى أنواع: الذهاب الى كلية والأمر لا يتطلب منك معدلا مهما، وغالبا ما يكون طلاب الكليات طلابا ‘بالاسم فقط’ فالكلية لم تعد في أيامنا سوى مرتعا للمواعد الغرامية، عدا بعض الكليات الاستثنائية كـ’الطب، وطب الأسنان، العلوم التقنية..’ أو إذا كنت من النوع الذي يحب الدخول سوق العمل بسرعة، أيضا لا يتطلب الأمر منك معدلا مهما للدخول الى مركز تكوين يقوم بتلقينك حرفا مختلفة مدة سنتين، أو بمعدل متوسط يمكنك بعد إجراء انتقاء للولوج إلى مدارس ذات مرتبة تقني، بينما وبمعدل مهم وبعد إجراء انتقاء، مباراة وأحيانا مقابلة. يمكنك الولوج إلى احدي مدارس المهندسين، أمر يعتبر حلم كل طالب في هذه المدارس تتعمق خلال سنتين في قوانين الفيزياء ومنطق الرياضيات وبعض الضوابط في العلوم الصناعية.. لتحفيز عقلك على التحليل، المناقشة والمراجعة الأمر الذي يميز شخصية “المهندس” تم ثلاث سنين بعدما تقوم باختيار التخصص المناسب لديك دورات متعددة لتتلقن فيها كل آليات المهنة، هذه المدارس يمكن ولوجها بطريقتين: الأولى وهي الطريقة التي سبق وذكرتها (انتقاء، مباراة، تم مقابلة وطبعا لو لم تكن لديك “التدويرة” فلن تحلم بتجاوز كل هذه المراحل). الثانية وهي الطريقة النزيهة وأيضا الطريقة التي تجعل لديك مساحة أكبر للاختيار _ فالطريقة الأولى لا تدعمها كل المدارس _ وهي قضاء السنتين الأولى في الأقسام التحضيرية ومن تم ولوج مدرسة حسب ترتيبك في المباراة النهائية (المباراة الوطنية المشتركة) حيث تدخل مباشرة في السنة الأولى من التخصص وتقضي بذلك ثلاثة سنين قبل منحك شهادة ‘مهندس دولة’ لذلك في بادئ الأمر، لم أفكر بهذه الطريقة ووددت الدخول عبر اجتياز المباريات والمقابلات بما أنني نجحت في الانتقاء الأولي إلى أن افتقاري للـ”تدويرة” حال دون وصولي لأية مدرسة فلم يتبقى لي سوى أن أختار الأقسام التحضيرية أو دخول مدارس أخرى صغيرة لن توصلني لمرتبة المهندس بل ‘تقني فقط’.. في إحدى الليالي، سمعت رنين الهاتف فأجابني صوت مألوف جدا، طبعا مألوف لأنه لطالما تبادلنا الحديث في الهاتف طوال سنتي الباكالوريا لنقوم بمراجعات هاتفية، بعدما تبادلنا التهاني والعبارات الاعتيادية حتى أخبرني أمين بأن أخر اجل لإيداع الأوراق من أجل التسجيل في الأقسام التحضيرية هو غدا وألح علي كما سبق وفعل بأن ندخل هذه الأقسام كي نكون معا مجددا طبعا لم أجد بيدي خيارا أخر فعصفور في القفص أفضل من مئة أحرار لأن اسمي كان في اللائحة الرئيسية للأقسام التحضيرية بينما كان بالنسبة للمدارس ذات رتبة تقني في ‘لائحة الانتظار’. أول ما أنهيت مع أمين المكالمة حتى جهزت أوراقي بسرعة كبيرة تم صليت مستخيرا لله عز وجل واستلقيت على السرير أستحضر شكل الأقسام المقزز والبنايات القديمة لكن في نفس الوقت كنت ألطف الرؤية بتذكر المساحات الخضراء المحيطة. استيقظت على صوت أمي وهي تناديني لكي أستقبل صديقة قديمة لها لم تزرنا لسنوات. أول ما دخلت وانتهينا من حديث الأدب الاعتيادي أخبرتها بوجهتي و الأقسام التحضيرية وبشكل لم أكن أتوقعه وجدتها تعرف هذه الأقسام فدعمتني وحفزتني أكثر بحديثها عن ابن جيرانها المهندس الذي تخرج من الأقسام التحضيرية ودرس بالخارج (فرنسا) كي يعود لبلده والعمل في مجال الهندسة. شيء جعلني أخطف أوراقي واتجه مسرعا للتسجيل دون تردد.

لم يكن (أمين) فقط هو الشخص الذي أعرفه ضمن المجموعة التي رأيت، بل كان أيضا ذلك الولد وصديقته شخصان مجتهدان جدا فكنت لطالما أرجح أن يذهبا للأقسام التحضيرية لكن للأسف لم يقبلهما ذلك اليوم كان اسمهما في لائحة الانتظار ولأن الجميع أراد الولوج فلم يأخذوا اسما من هذه القائمة الاحتياطية، كان أيضا (محمد) صديق أصدقائي لكنني لم أكن أعرفه لأنه لم تجمعني به أية فرصة وكذلك كان يوجد (نادر) شخص نادر بالفعل ليس من النوع المعهود على التلاميذ النجباء، جريء جدا، شديد الشقاوة، سلوكه غير محبذ، لكنه إنسان جيد ووفي هو الوحيد الحاصل من ثانويتي على ميزة -حسن جدا- لذلك وجوده أيام التسجيل كان مطمئنا بالنسبة لي _ كوني سأكون زميل الأول في ثانويتي _ لم يتوقف الأمر عنده فقط، بل عند دخولي للتسجيل ورؤيتي للوائح التي فيها أسماء المسجلين وجدت اسمين مألوفين جدا.

أحمد وبدر، إنهما اسما الشخصين اللذان حازا على المركز الأول والثاني على التوالي على الصعيد الوطني بالنسبة لشعبة التقني التي أتبعها- وقبل أن أدخل إلى الحارس العام المكلف بتسجيل الطلاب خرج طالب طويل القامة يحمل في يده اليمنى كيس على شكل آلة موسيقية وترية كنت أعتقد أنه يحمل كمانا لم أعرف إلا بعد عدة شهور أنه كان يحمل لوحا كرة المضرب. أخبرني (أمين) عن هذا الشخص أنه صاحب المركز الأول في الثانوية المجاورة لنا. دخلت إلى الحارس العام (سفوري) وأعطيته كل الوثائق لكن كان ينقصني بيان النقط في الأول توترت لأن المسافة بين المركز والمنزل بعيدة جدا ومن غير المعقول أن أعود لإحضاره لكن (سفوري) تعامل مع الأمر بلطف وأخبرني بأنه يمكنه تسجيلي على أن أودع البيان في وقت لاحق. كل هذا التعاون والتفاؤل جعلني أعود للمنزل وأنا أشد يقينا أنني قمت بالخيار الصحيح.

بعد بضعة أيام، عدت إلى المركز من جديد هذه المرة بهدف التسجيل في الداخلية واختيار الغرف التقيت مجددا بالعديد من الأصدقاء لم يكن منهم سوى أشخاص لائحة الانتظار فكل منهم قام باختيار مختلف بعدما لم يحالفه الحظ معنا. وصلت إلى هناك مع قرابة الساعة التاسعة صباحا وكان المركز شديد الاكتظاظ لهذا اضطررنا للوقوف تحت رحمة الشمس لساعات كثيرة في انتظار أولا وصول المسئول (عبد الرزاق) تم ثانيا وصول “نوبتنا” الأمر كان سهلا، يدخل شخص واحد بالنيابة عن أربعة يقوم بتسديد مصاريف الداخلية لكل واحد منهم تم يأخذ مفتاح ورقم الغرفة لذا كان أول أمر يجب الاتفاق عليه هو من هم الثلاثة الذين سيرافقونني الدرب في نفس الغرفة ومن سيتكلف بإتمام عملية التسجيل أنا اخترت (أمين) وأمين اختار أن نضيف معنا (محمد) وبقي ينقصنا شخص إضافي فاخترنا (عبد اللطيف) هو أيضا درس معي عندما كنت في السنة الثانية باكالوريا لكنني لم أكن أعرفه جيدا لأنه ببساطة يجتمع كثيرا بنوعية معينة من الأصدقاء لا أتجاوب معهم. لكن هذا الأمر لم يمنعني من تقبله معنا في نفس الغرفة بفرح لأنني كنت أعتقد أن زملائك في الغرفة لن يكون لهم تأثيرا كبيرا مادامت منظما في حياتك وعملك. وكانت بادرة طيبة من (أمين) أن يكون المتطوع للذهاب والتسجيل بالنيابة عنا. لم يكن اليوم بنفس سهولة اليوم السابق كوننا انتظرنا كثيرا والجو كان حارا ومع نهاية اليوم طلب منا أن نأتي يوم التاسع من سبتمبر لنبدأ السنة الدراسية طبعا تاريخ كهذا يعتبر مبكرا جدا، لذلك لم يكن مفاجئا بالنسبة لي أن أعرف أننا أول من يبدأ الدراسة في المغرب.

ليلة الثامن من سبتمبر جمعت حقائبي وكل ما يلزمني، ودعت أهلي وركبت ثلاثة أنواع من المركبات (حافلة تم سيارة أجرى كبيرة تم سيارة أجرة صغيرة) ولم أصل إلا بعدما تعدت الساعة الثامنة مساءا، مثقلا بمجموعة من الحقائب دخلت الباب الرئيسي تم ساحة كبيرة، تم مساحة وحلية تم دخلت المبنى الذي يوجد فيه الغرف وما إن تخطيت الباب حتى تعقب طريقي ثلاثة أشخاص لا أعرفهم واحد ضخم جدا وطويل الثاني ذي قامة متوسطة يرتدي نظارتين ويحمل سيجارة والثالث قصير القامة، نحيف جدا ويرتدي بذلة “كونغ-فو” سوداء…